عاجل

image

المرفأ في عهدة "الأم الحنون": إعادة تأهيل بكلفة 100 مليون دولار

النهار - سلوى بعلبكي:

بعد ثلاث سنوات ونصف سنة على جريمة تدمير نافذة لبنان التاريخية على العالم، تعود قضية إعادة إعمار مرفأ بيروت إلى واجهة الإهتمامات السياسية والإقتصادية مجددا من خلال مشروع هندسي أعدّته شركتان فرنسيتان بهدف

إعادة بناء وتطوير البنى التحتية والأرصفة وأحواض التسفين، وتجهيزه بأحدث النظم والتقنيات الأمنية والخدماتية التي تضرر وتدمَّر بعضها كلياً يوم 4 آب 2020 المشؤوم.

لماذا الفرنسيون؟ الجواب موجود بقوة في التاريخ والدور الفرنسي العريق مع لبنان، وحرص "الأم الحنون" المستدام على التواجد والتدخل بكل الإمكانات السياسية والإقتصادية والإنسانية، كلما احتاج الإبن التاريخي لفرنسا الى معونة أو يدٍ تنتشله من الويلات والمصائب التي جلبها عليه سوء السلطة فيه، وفساد الطبقة السياسية برمّتها.

مذ وطئت قدما الرئيس إيمانويل ماكرون أرض لبنان مباشرة بعد التفجير، والكل يعلم أن المرفأ أصبح تحت نظر العناية الفرنسية المركزة، إلا ان تعقيدات التحقيق، والشغور الرئاسي، وحرب أوكرانيا، وليس آخراً حرب غزة، فرملت الإندفاعة الفرنسية.

منذ اللحظات الأولى للزيارة برز الاهتمام المباشر لمسؤولين رفيعي المستوى في الإدارة الفرنسية بقضية إعمار مرفأ بيروت، وعملهم الجدي لإبقاء قضية إعادة تحريك عجلة الوظيفة الاقتصادية والدور الملاحي في غرب المتوسط لمرفأ بيروت في سلّم أولويات الحراك الفرنسي.

مشاريع بالجملة عُرضت، ودراسات كثيرة أجريت على المرفأ، ووُضعت مخططات وأطر تطوير وتعمير وإعادة إحياء عدة، من جهات لبنانية ودولية مختلفة، لكن معظمها إنتهى إلى الأرشفة والنسيان. أما في حالة المشروع

الفرنسي الحالي، فالتمويل مؤمّن إما مباشرة من الحكومة الفرنسية التي تشترط الاتفاق المسبق مع صندوق النقد الدولي قبل الشروع في التمويل، وإما برمجة إعمار ذاتي للمرفأ من خلال تقاسم عائداته وأرباحه مناصفة بين مشروع "البور بيعمّر حالو" من جهة، وبين الدولة التي تحتاج بقوة إلى عائدات تعينها في إدارة شؤونها.

ليس خافيا على أي متابع جدي للأوضاع المالية والنقدية والشؤون الضريبية معرفة ما يمثله وجود مؤسسة بحجم مرفأ بيروت، للنمو الاقتصادي وللدور المحوري في صناعة وتنشيط حركة التجارة في المنطقة برمتها، وخصوصا بعد حرب غزة وتراجع الإمكانية التنافسية لمرفأ حيفا مع العمق العربي بسبب تنامي حالة الغضب الشعبي والرسمي مما تمارسه إسرائيل من وحشية وظلم في غزة والقطاع ولبنان.

لا يحتاج مرفأ بيروت الى خبرات أو "كادرات" فرنسية، فلبنان مليء بهم وبهنّ، ممن يمكنهم النهوض بالمرفأ وجعله في مصاف النوافذ البحرية المركزية على المتوسط، وخط الإتصال التجاري الأساسي بين الشرق والغرب، بيد أن ذلك يحتاج الى أمرين اثنين فقط:

الأول، إبعاد السياسة المحلية والزبائنية والفساد السياسي عن مشروع الإعمار واستعادة الحياة مجدداً للمرفأ، والثاني: فرض الشفافية في الإعمار والإدارة، وتحديث القوانين البالية التي لا تزال تتحكم بالعمل اليومي لموظفي المرفأ، والشروع في اعتماد آليات وتقنيات تتماهى مع الحداثة والتكنولوجيا المتطورة، والأهم إقفال النوافذ التي يتسرب منها التهريب والتهرب الضريبي، وإبعاد الحمايات السياسية والحزبية عن دوائر الإدارة والمحاسبة المالية فيه.

منذ الرابع من آب 2020 وحتى اليوم، يمكن القول إن فرنسا هي الدولة الوحيدة التي بقيت على التزامها من دون انقطاع من أجل دعم تعافي المرفأ، وفق ما يؤكد رئيس الدائرة الاقتصادية الإقليمية في السفارة الفرنسية فرنسوا

سبورير ردا على سؤال لماذا تدعم فرنسا تعافي مرفأ بيروت؟ عدا عن ذلك، فإن المرفأ يشكل مرفقا بالغ الأهمية في الاقتصاد اللبناني. فتطوير قطاع تصدير منتج، أمر أساسي لإعادة بناء الاقتصاد اللبناني على أساس نموذج متوازن

وسليم، وتاليا فإنه يصعب تحقيق ذلك من دون إعادة بناء مرفأ بيروت وتحديثه وضمان أمنه. إلى ذلك، يشكل المرفأ مصدرا مهما لمداخيل الدولة اللبنانية، من خلال الرسوم الجمركية وعائدات العمليات المرفئية، وتاليا ينبغي أن يساهم في تمويل مسار التنمية في البلاد. من هنا، أراد الرئيس ماكرون أن تدعم فرنسا تعافي المرفأ، كونه من الأولويات الأساسية بالنسبة إلى فرنسا في إطار دعمها للبنان، وهذه الأولوية هي في صلب التعاون الثنائي.

وتبعاً لذلك، حشدت فرنسا جهود شركتي هندسة فرنسيتين ذات خبرة متينة في مجال البنى التحتية المرفئية وهما Artelia وEgis للمساهمة في صياغة استراتيجية لإعادة تأهيل المرفأ بالتعاون مع السلطات اللبنانية، فتم تبنّي مقاربة


واقعية وبراغماتية. وهذه ليست دراسة جديدة، وفق ما يقول سبورير، بل مقترحات تقنية عملانية من شأنها أن تمكن المرفأ من إحراز تقدم ملموس، وإعادة بناء الأرصفة المتضررة، وتحسين الحركة في المرفأ بفضل خطة جديدة، خصوصا بالحركة واعتماد التقسيم الأمثل للقطاعات، واعتماد الطاقة الشمسية لاستهلاك المرفاً من الطاقة بالإستناد إلى توصيات كهرباء فرنسا (EDF) بما يتيح تحقيق وفر مالي لا يستهان به.

في 13 الجاري، ستطلق السفارة الفرنسية المخطط التوجيهي لمرفأ بيروت متضمناً الاقتراحات المتعلقة بتنظيم المرفأ والمبادئ التوجيهية لتقييم أمنه، الذي أعدته شركات فرنسية خاصة بتمويل من الدولة الفرنسية. وقد سلمت السفارة

الخطة التي تلحظ ايضا النظرة البعيدة المدى لكيفية الافادة من مرفأ بيروت لتأمين مداخيل اضافية للدولة اللبنانية، لتصبح الكرة في ملعب الدولة اللبنانية ووزارة الأشغال والمرفأ. ويؤكد مصدر ديبلوماسي لـ"النهار" أن "الرسالة

الايجابية التي يمكن أن يرسلها لبنان هي في مباشرته ازالة الردم"، شارحا أن "ثمة نوعين من الردميات: الأول يمكن الافادة منه بإعادة التدوير مثل الحديد، والثاني غير مجدٍ لا تجاريا ولا في اعادة التدوير مثل مخلفات البناء، لذا كانت الشركات ترفض التعامل إلا مع الردميات المجدية تجاريا". وكشف أن "وزارة الاشغال قاب قوسين من الاتفاق مع أحد المتعهدين لإزالة الردم من دون أن اي كلفة اضافية على الدولة اللبنانية"، معتبرا أن "عدم المباشرة بإزالة

الردميات، التي لا تتطلب ازالتها أكثر من بضعة اشهر، هو بحد ذاته اشارة سلبية لكل ما انجزناه للمباشرة بإعادة إعمار المرفأ".

وبما أن فرنسا ساهمت في إعداد الخطة، فهل هذا يعني أن الاولوية هي للشركات الفرنسية في مخطط إعادة الاعمار؟ ينفي المصدر هذا التوجه، إذ ثمة شركات مقاولات لبنانية وهندسية مؤهلة للقيام بالمشروع، مع أنه يشير في

المقابل الى تجربة شركة CGM CMA الفرنسية في لبنان، "فهي الشركة الوحيدة في المرفأ، وقد استثمرت نحو 30 مليون دولار في محطة الحاويات، وتتمتع بسمعة عالمية عالية، ولكن لا يعني ذلك حتمية فوزها بالمناقصات التي ستطلقها ادارة المرفأ عبر هيئة الشراء العام".

ومعلوم أن البنك الدولي كان قد أبدى استعداده للمساهمة مع الدولة لإعداد خطة التمويل وجذب المستثمرين من الدول الصديقة في العالم. لكن اهتمامه كان مركزا أكثر على المساحات غير المشغولة في المرفأ ليصار الى بناء

مؤسسات سياحية عليها، وهو ما رفضه وزير الاشغال علي حمية رفضاً قاطعاً إذ سبق له أن قال لـ"النهار": "لن أقبل بهذا المشروع طالما أنني وزير للاشغال العامة... ونقطة على السطر". وقد أخذت الخطة الفرنسية هذا الرفض في الاعتبار، فاستبعدت هذا الاتجاه ليصبح المرفأ مصدرا رئيسيا للايرادات من خلال تحسين الاداء، وفق ما يؤكد المصدر.

يدرك الجانب الفرنسي الأوضاع السياسية والامنية التي تمر بها البلاد، فيما التبادل التجاري بين البلدين لا يعوّل عليه إذ لا تتجاوز الصادرات الفرنسية الى لبنان ما نسبته نحو 0.04% من مجمل الصادرات الفرنسية، وتاليا فإن لبنان ليس الشريك التجاري الاول لفرنسا أوروبيا، من هنا كان مستغربا هذا الاهتمام في ظل هذه الظروف، لكن سبورير يؤكد ان الاهتمام الفرنسي باعادة إعمار المرفأ جاء أولا بناء على طلب وزارة الاشغال، علما أن فرنسا

ساعدت المرفأ على التعامل مع حالة الطوارئ بعد الإنفجار وتم نشر الجيش الفرنسي في شهر آب 2020 للمساعدة على ضمان أمن المرفأ وفرز الجزء الأساسي من الخردة. كذلك موّلت فرنسا إزالة وإعادة تدوير الحبوب المتناثرة حول المرفاً، ودراسة تهدف إلى تقدير قيمة الخردة الواجب إزالتها واقتراح نموذج للتصرف بها من خلال إطلاق مناقصة.

لكن فرنسا، وفق المصدر الديبلوماسي، مقتنعة بأن "مصلحة لبنان الكبرى هي في اعادة اعمار المرفأ الذي يدر أموالا طائلة للخزينة قد تغنيه عن اللجوء الى المجتمع الدولي. مع الاخذ في الاعتبار أن اعادة اعماره لا تتطلب الكثير من التمويل، خصوصا ان الكلفة تُقدر بما بين 60 و80 مليون دولار يمكن للبنان تأمينها من دون الاستعانة بأي جهة خارجية".

اما عن الفترة التي يتطلبها مشروع اعادة الاعمار، فيؤكد المصدر أن الشق الاصعب في اعادة الاعمار هو الرصيف الرقم 19، فيما المشروع بكامله لا يتطلب أكثر من 4 سنوات.

في 13 الجاري، ستحرص فرنسا على ابراز وجهتين من وجهات التعاون اللبناني - الفرنسي في ما يخص المرفأ: من جهة أولى الإقتراحات المتعلقة بتنظيم المرفأ، اضافة إلى المستندات التقنية التي تتيح إطلاق مناقصات بشأن الأشغال ذات الأولوية في مجال البنية التحتية. ومن جهة أخرى، المبادئ التوجيهية لتقييم أمن المرفأ، بما في ذلك التدابير الملموسة الرامية إلى ضمان متطلبات الأمن في مرفأ بيروت بهدف استيفاء المعايير الدولية. أما الخطوات

التي ستلي ذلك، فيشدد سبورير على أن فرنسا مستعدة لمواصلة تعاونها وتأمين خبرات طويلة الأمد بهدف دعم تنفيذ خطة تعافي المرفأ، فضلاً عن بعض الموضوعات المحددة مثل التحول الرقمي. وهذه المرحلة تتطلب تنظيف المرفأ لتصبح هذه المساحة آمنة وقابلة لإعادة التأهيل، وتأمين المبالغ اللازمة للقيام بهذه الأشغال، وتوضيح الإطار القانوني والتنظيمي بغية تحديث عمل المرفأ واجتذاب الشركات الخاصة.


 

  • شارك الخبر: